فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}
لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله وحذرهم من الفتنة ذكرهم نعمته عليهم.
فقال تعالى: {واذكروا} يا معشر المؤمنين المهاجرين {إذ أنتم قليل} يعني في العدد {مستضعفون في الأرض} يعني في أرض مكة في ابتداء الإسلام {تخافون أن يتخطفكم الناس} يعني كفار مكة قال عكرمة كفار العرب وقال وهب ابن منبه يعني فارس والروم {فآواكم} يعني إلى المدينة {وأيدكم بنصره} يعني وقواكم بالأنصار.
وقال الكلبي: وقواكم يوم بدر بالملائكة {ورزقكم من الطيبات} يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم {لعلكم تشكرون} يعني تشكرون الله على نعمه عليكم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}
نزلت عقب بدر، فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يسلبهم المشركون، قال ابن عباس فآتوا هم بالمدينة وأيدهم بالنصر يوم بدر و{الطيبات} الغنائم وما فتح به عليهم، وقيل الخطاب للرسول والصحابة وهي حالهم يوم بدر و{الطيبات} الغنائم والناس عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة والتأييد هو الإمداد بالملائكة والتغلب على العدد، وقال وهب وقتادة الخطاب للعرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجسامًا وأجوعهم بطونًا وأقلّهم حالًا حسنة والناس فارس والروم والمأوى النبوة والشريعة والتأييد بالنصر فتح البلاد وغلبة الملوك و{الطيبات} تعم المآكل والمشارب والملابس، قال ابن عطية: هذا التأويل يردّه أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي الله عنه فإن تمثّل أحد بهذه الآية بحال العرب فتمثيله صحيح وإما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه انتهى، وهذه الآية تعديل لنعمه تعالى عليهم، قال الزمخشري: {إذ أنتم} نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف أي {اذكروا} وقت كونكم أقِلّة أذِلّة انتهى، وفيه التصرّف في {إذ} بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرّف إلا بأن أضيف إليها الأزمان، وقال ابن عطية: وإذ {ظرف} لمعمول و{اذكروا} تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ولا يجوز أن تكون {إذ} ظرفًا لاذكر وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدّرناها مفعوله انتهى، وهو تخريج حسن.
وقال الحوفي {إذ أنتم} ظرف العامل فيه {اذكروا} انتهى، وهذا لا يتأتى أصلًا لأنّ اذكر للمستقبل فلا يكون ظرفه إلا مستقبلًا وإذ ظرف ماضٍ يستحيل أن يقع فيه المستقبل و{لعلكم تشكرون} متعلق بقوله: {فآواكم} وما بعده أي فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي وقتَ كونِكم قليلًا في العدد، وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف، وقوله تعالى: {مُّسْتَضْعَفُونَ} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى: {فِى الأرض} أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين، أو تحت أيدي فارسَ والرومَ، والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلأَ تحت أيدي الطائفتين، وقوله تعالى: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد، أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدةِ عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمَ الجليلة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ}
{مُّسْتَضْعَفُونَ} خبر ثان وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: {فِى الأرض} أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب.
واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} خبر ثالث أو ثفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعدما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالًا من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول: وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قال عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني: فارس والروم.
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس، والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت {فَآوَاكُمْ} أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة؛ والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر.
والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم الجليلة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ}
عُطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتُهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى الله عليه وسلم تذكيرُهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا، فالخطاب للمؤمنين يومئذٍ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساقَ لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثَرَه فيهم كلما احتفظوا عليه كُفُوه من قبللِ سُؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفّه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوبًا.
وفعل {واذكروا} مشتق من الذكر بضم الدال وهو التذكر لا ذكر اللسان، أي تَذَكروا.
و{إذْ} اسم زمان مجرد عن الظرفية، فهو منصوب على المفعول به، أي اذكروا زمن كنتم قليلًا.
وجملة: {أنتم قليل} مضاف إليها {إذْ} ليحصل تعريف المضاف، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم.
وأخبر بـ {قليل} وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلًا وكثيرًا قد يجيئان غير مطابقين لما جريا عليه، كما تقدم عند قوله تعالى: {معه ربيون كثيرٌ} في سورة [آل عمران: 146].
والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض} في سورة [الأعراف: 56] فالتعريف شبيه بتعريف الجنس، أو أريد بها أرض مكة، فالتعريف للعهد، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلًا مستضعفين بين المشركين، فإنهم كانوا حينئذٍ طائفة قليلة العدد قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصرِ موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فآواهم الله بأن صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيّض الإنصار أهلَ العقبة الأولى وأهلَ العقبة الثانية، فأسْلموا وصاروا أنصارًا لهم بيثرب، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فئاواهم بها، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فئاواهم بها، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر، فالله الذي يسّر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمّل، أفلا يكون ناصرًا لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعَوا للنصر بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم أقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلًا مستضعفين.
والتخطف شدة الخطف، والخطف: الأخذ بسرعة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} [البقرة: 20] وهو هنا مستعار للغلبة السريعة لأن الغلبة شبه الأخذ، فإذا كانت سريعة أشبهت الخطف، قال تعالى: {ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 27] أي يأخذكم أعداؤكم بدون كبرى مشقة، ولا طول محاربة إذ كنتم لقمة سَايغة لهم، وكانوا أشد منكم قوة، لولا أن الله صرفهم عنكم، وقد كان المؤمنون خائفين في مكة، وكانوا خائفين في طرق هجرتيْهم، وكانوا خائفين يوم بدَر، حتى أذاقهم الله نعمة الأمن من بعد النصر يوم بدر.
و{الناس} مراد بهم ناس معهودون وهم الأعداء، المشركون من أهل مكة وغيرهم، أي طائفة معروفة من جنس الناس من العراب الموالين لهم.
وما رزقهم الله من الطيبات: هي الأموال التي غنموها يوم بدر.
والإيواء: جعل الغيْر ءاويًا، أي راجِعًا إلى الذي يجعله، فيؤول معناه إلى الحفظ والرعاية.
والتأييد: التقوية أي جعل الشيء ذا أيد، أي ذا قدرة على العمل، لأن اليد يكنى بها عن القدرة قال تعالى: {واذْكر عبدنا داود ذا الأيد} [ص: 17].
وجملة: {ورزقكم من الطيبات} إدماج بذكر نعمة توفير الرزق في خلال المنة بنعمة النصر وتوفير العَدد بعد الضعف والقلة، فإن الأمن ووفرة العدد يجلبان سعة الرزق.
ومضمون هذه الآية صادق أيضًا على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حُنين، ونصرهم على الروم يوم تَبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية، وعلى الروم في مصر، وفي برقة، وفي إفريقية، وفي بلاد الجلالقة، وفي بلاد الفرنجة من أوروبا، فلما زاغ المسلمون وتفرقوا أخذ أمرهم يقِف ثم ينقبض ابتداء من ظهور الدعوة العباسية، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية.
وقد نبههم الله تعالى بقوله: {لعلكم تشكرون} فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد، وحين نَسوه أخذ أمرهم في تراجع ولله عاقبة الأمور.
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم، وفي الحديث، عن حذيفة بن اليمان قال: قلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخَيْر من شَر قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دَخَن» الحديث، وفي الحديث الآخر: «بُدئ هذا الدين غريبًا وسيَعْود كما بُدئ». اهـ.